لماذا يفلت قتلة الصحفيين من العدالة في ليبيا؟

طرابلس، بنغازي – بوابة الوسط: أحمد الزعيليك

الجمعة 23 سبتمبر 2022

قُتل في ليبيا خلال الأعوام ما بين 2011 و2021 قرابة الـ30 صحفيًا ومدونًا حسب ما وثقته المنظمة الليبية للإعلام المستقل، وذلك إما أثناء تغطيتهم الاشتباكات المسلحة، أو أثناء تغطية الاحتجاجات التي تتحول إلى أعمال عنف، أو بسبب كتاباتهم وأعمالهم الصحفية أو تدويناتهم المنتقدة للأوضاع في البلاد، وقد أفلت القاتل من العقاب في أغلب الحالات.

خلال العقد الماضي، وحسب بيانات المنظمة ذاتها، قُتل في مدينة بنغازي 11 صحفيًا، و7 صحفيين في درنة، و3 في سبها، وصحفيان في مصراتة، بينما قتل صحفي واحد في كل من طرابلس والقره بوللي والبريقة، والمنطقة ما بين غات وأوباري.

الصحفيون الليبيون يمثلون 70% من الضحايا
ويمثل الليبيون 70% من الحالات المرصودة، بينما يشكل الأجانب 30% منها، وهم صحفيان تونسيان وأميركي وبريطاني وفلسطيني وقطري ومصري وجنوب أفريقي وهولندي، بينما بلغ عدد الليبيين 21 صحفيًا جرى قتلهم.

وكان العام 2014 هو أكثر الأعوام دموية، إذ حدثت فيه أكثر الجرائم التي استهدفت الصحفيين، ففي هذا العام وحده قتل 9 صحفيين، وأخذ العدد في التناقص تدريجيًا منذ ذلك الحين، حيث قتل في العام 2015 ثمانية صحفيين، وفي العام 2016 ثلاثة صحفيين، ثم صحفي واحد في العام 2018 وآخر في 2019. ونسبة إلى عدد السكان كان مؤشر ليبيا هو الأسوأ في مقياس لجنة حماية الصحفيين، إذ بلغ 1.6 صحفي لكل مليون شخص من السكان، ويعد تقييم ليبيا أسوأ من دولة الصومال وأسوأ حتى من سورية.

هذه الأرقام تحمل دلالات على مقدار الحرية الذي يتمتع به الصحفيون لأداء عملهم، ولكن الأسوأ هو أن جميع هذه الجرائم أفلت مرتكبوها من العقاب، ففي الغالب تلجأ مجموعات مختلفة إلى شن حملات تحريضية يعقبها عنف لإسكات الأصوات المنتقدة والإعلاميين، خاصة أولئك المهتمين بكشف انتهاكات حقوق الإنسان، بينما فشلت الجهات المختصة في تقديم المسؤولين عن هذه الجرائم إلى العدالة.

روايات أهالي الصحفيين الليبيين الضحايا
في محاولة من «بوابة الوسط» لكشف مجريات التحقيقات المتعلقة بالجرائم المرتكبة ضد الصحفيين، تواصلنا مع أقارب وأصدقاء عدد من الصحفيين الضحايا، لمعرفة الطريقة التي أُجريت بها التحقيقات وكيفية تعامل السلطات المحلية مع هذه الجرائم.

ورفض عدد من أهالي الضحايا التحدث عن قضاياهم، بينما تحدث آخرون ورفضوا نشر أسمائهم أو إثارة قضايا ذويهم، وتمكنَّا من الحصول على تصريحات ومعلومات من بعض العائلات التي قبلت بالإدلاء بروايتها خلال إعداد هذا التقرير، واتفق جميع الذين تحدثنا معهم على أن التحقيقات لم تصل إلى أي نتيجة ولم تصل إلى الجناة ولم تقدمهم إلى العدالة.

الصحفي مفتاح بوزيد
حنان العبيدي زوجة الصحفي الراحل مفتاح بوزيد، الذي قُتل في بنغازي في مايو 2014 وكان أحد الصحفيين المعروفين في ليبيا، قالت «إن التحقيقات توقفت فقط عند فتح المحضر حتى العام 2019، عندما جرى إعلان القبض على مجموعة من المتهمين، واعترف أحدهم بأسماء عدد من المسؤولين عن الاغتيالات وعدد من الشخصيات التي جرى استهدافها».

وأوضحت العبيدي أنها لا تعلم ما جرى بعد ذلك على الرغم من أن أخوة مفتاح بوزيد محامون، وهم يعملون على متابعة قضيته، إلا أن التحقيقات في قضيته لم تكشف الحقيقة ولم تقدم الجناة إلى العدالة. وأضافت أن «كل ما يريده أهل مفتاح بوزيد هو أن يأخذ القانون حقه، ويكشف المجرمين المسؤولين عن مقتله ويقدمهم إلى العدالة، أو يكشف أسباب استهدافه في حال موت الجناة خلال الحرب مثلًا».

وأوضحت حنان العبيدي أنها تظن أن «السلطات مقصرة في التحقيق»، معربة عن اعتقادها بأن «السلطات والأجهزة الأمنية تفتقر إلى الإمكانات، خاصة في ظل أوضاع ليبيا غير المستقرة».

الإعلامي قنديل الزوي
أما حواء الديفار، وهي زوجة راضي قنديل الزوي (إعلامي إذاعي) اغتيل في بنغازي في يوليو 2014، فقالت: «إن التحقيقات لم تكشف الجناة، وهي تحقيقات مبدئية كباقي التحقيقات في جرائم الاغتيالات»، وأوضحت: «هناك تقصير في متابعة القضايا التي تتعلق بجريمة استهداف زوجي»، وأضافت: «هذا التقصير يطال متابعة أهالي من قتلوا نتيجة للتعبير عن رأيهم، وكان من المفترض أن تتم متابعة عائلاتهم وأن يتم اعتبارهم شهداء واجب» على حد تعبيرها.

واعتبرت الديفار أن ما جرى في قضايا اغتيال الصحفيين يعتبر «مزيجًا من التقصير مع ضعف الإمكانات وضعف القدرات، خاصة في حالة الفوضى الأمنية التي عاشتها ليبيا وحالة الحروب وغياب جزء كبير من الحقيقة مع من قتلوا خلال الحرب من المشتبه فيهم أو المتهمين أو المسؤولين عن جرائم الاغتيال».

الإعلامي الفلسطيني عز الدين قوصاد
عمر موسى، طبيب من بنغازي وهو صديق الإعلامي الفلسطيني الراحل عز الدين قوصاد الذي اغتيل في بنغازي في العام 2014، قال إن «عائلة عزالدين هاجرت إلى كندا»، مشيرًا إلى أن «متابعة التحقيقات لم تصل إلى أي نتيجة خاصة أنها أُجريت في ظل الفوضى التي كانت تعيشها البلاد»، وأضاف أن القضية قيدت ضد مجهول.وأوضح موسى أن عزالدين كان يعمل خطيبًا في أحد المساجد، ومقدمًا للبرامج، بالإضافة إلى عمله في مركز بنغازي الطبي كفني معمل، مبينًا أنه «تعرض للتهديد بسبب عمله كخطيب».

سليمة بن نزهة، رئيسة تحرير جريدة «فسانيا» في سبها قتل شقيقها عبدالله بن نزهة، وابن خالتها موسى عبدالكريم في سبها، وقالت سليمة إن شقيقها «قتل أثناء تغطيته مواجهات مسلحة برصاصة قناص في العام 2014» وإنه لم يكن مستهدفًا لشخصه أو عمله، حسب اعتقادها، ولكن ابن خالتها موسى عبدالكريم، الذي كان يعمل معها في جريدة «فسانيا» «خُطف وتمت تصفيته في العام 2018 أمام الناس» وذلك بعد نشره تقريرًا عن الجريمة المنظمة في سبها.

وحسب روايات شهود عيان، نفذ العملية ثلاثة أشخاص ملثمين، وجرى تصفية الفقيد في حي الطيوري بسبها بعدما تم إنزاله وتبدو عليه علامات التعذيب. وقالت بن نزهة إن التحقيقات «لم تصل إلى نتيجة»، وإنها تعتقد «أن هناك تقصيرًا في متابعة هذه القضايا»، مشيرة إلى أن الاهتمام بالقضية «لم يتعدَّ بعض البيانات من قبل بعض النشطاء والجهات».

وفي سياق متصل، قال فاتح مناع عضو اللجنة التأسيسية لنقابة الصحفيين الليبيين، إن «جزءًا من إشكالية غياب العدالة في القضايا التي تمس الصحفيين، يرجع إلى غياب الجسم الحاضن للصحفيين، وهو النقابة التي تشكل الواجهة القانونية المدافعة عن حقوق الصحفيين».

من المسؤول عن قتل الصحفيين الليبيين؟
يقول عبدالحميد الحصادي، مدير مكتب الإعلام السابق في وزارة العدل، إن «وزارة العدل سابقًا كلفت لجانًا مختصة بحقوق الإنسان، خاصة فيما يتعلق بالنشطاء والصحفيين، إلا أن وزارة العدل الحالية – حسب تعبيره – لم تهتم بهذه القضايا»، مشيرًا إلى أن وزيرة العدل الحالية محسوبة على تيار سياسي معين، وقد جاءت إلى منصبها لتهتم بملفات معينة – لم يسمها – وأنها لم تأخذ على عاتقها الاهتمام بشكل جيد بملفات حقوق الإنسان.

وقد تواصلنا مع ربيع الزوي، مسؤول المكتب الإعلامي لوزارة العدل الحالية للتعليق على هذه النقاط، إلا أننا قوبلنا بإجابة واضحة بأن قضايا الصحفيين تتعلق بالنيابة في حال معرفة الجناة وصدور أمر الضبط، وبوزارة الداخلية في حال عدم معرفة الجناة، وعند سؤالنا عن اللجان المختصة بمتابعة قضايا حرية الرأي وحقوق الإنسان، طلب منا التقدم برسالة رسمية لطلب المعلومات وتوضيح القضايا المذكورة في التقرير، ولم نتلقَ ردًا حول الموضوع حتى تاريخ إعداد هذا التقرير.

الصديق الصور: جرائم استهداف الصحفيين تثير انتباه الرأي العام
من جانبه، يقول النائب العام الليبي المستشار الصديق الصور لـ«بوابة الوسط» إن «الاعتداء على حياة المواطن يمثل أكبر جريمة»، وإن «من أولويات عمل الأجهزة الأمنية والنيابة متابعة هذه الجرائم»، مبينًا أن هذا ينطبق على الصحفيين وعلى جميع المواطنين، مؤكدًا أن «متابعة هذه القضايا (جرائم القتل) مهمة، بغض النظر عن مهنة الضحية، وعن عمل المجني عليه، إلا أن الجرائم التي تستهدف الصحفيين تثير انتباه الرأي العام بشكل أكبر، وأن التفاعل معها سيكون إيجابيًا من جميع الجهات المسؤولة» حسب قوله.

وأوضح الصور أنه «في حال عدم معرفة الجناة فإن السؤال يتعلق بمتابعة الأجهزة الضبطية والبحثية للتحقيقات، ومتابعة النيابة ووزارة الداخلية، وبالتالي فإن متابعة هذا الأمر تحتاج إلى العودة إلى السوابق وتواريخ الحوادث ومراجعتها»، وطلب منا أيضًا التقدم بكتاب رسمي لمراجعة الوقائع والتعليق على الحوادث التي تواصلنا مع أصحابها.

تهرب المسؤولين في «الداخلية»
وخلال عملية البحث تواصلنا مع عدد من المسؤولين في وزارة الداخلية ومكتبها الإعلامي للحصول على تعليقات حول قضايا استهداف الصحفيين، لكننا لم نحصل على رد، وواجهنا تهربًا من المسؤولين، حيث كان كل مسؤول يحيلنا إلى مسؤول آخر، ولم نحصل على تعليق في نهاية الأمر، وطُلب منا إرسال طلب كتابي للتعليق على الحالات التي تواصلنا معها ولم نحصل على رد أيضًا.

وخلال سعينا للحصول على تفسيرات مقنعة لغياب العدالة في قضايا الصحفيين، تواصلنا مع ضابط رفيع المستوى في وزارة الداخلية الليبية، تحدث معنا شريطة عدم كشف هويته، وقال إن «عدم التوصل إلى الجناة في جرائم الاغتيالات المختلفة ليس أمرًا خاصًا بالصحفيين فقط، وإن هذا الأمر شبه عام على مختلف شرائح المجتمع التي تعرضت لاعتداءات».

وأوضح الضابط أن حالة الإفلات من العقاب مستمرة «بسبب عدم كشف المسؤولين عن الجرائم المختلفة، وأن ذلك ليس مقصودًا أو متعمدًا وإنما هو نتيحة لضعف أجهزة الأمن والشرطة، وقلة تدريبها وخبرتها» حسب اعتقاده. وأضاف الضابط أن «أنواع الجرائم التي استُجدت على الساحة الليبية بعد 2011 مثل الخطف والاغتيال والإخفاء القسري، ليست أجهزة الأمن الليبية مستعدة ولا مدرَّبة ولا مجهزة للتعامل معها».

وأشار الضابط إلى أن أجهزة الأمن قبل 2011 كانت تعتمد على الاعترافات والمعلومات من المواطنين (البلاغات والشهادات)، وأن العمل الأمني كان بسيطًا، نظرًا لطبيعة الأمن في البلاد وقلة الجرائم المعقدة، وقال: «إن الجرائم الجديدة المعقدة التي لا تظهر فيها هوية المجرم ولا تفلح الشهادات والاعترافات في المساعدة في كشف الجاني تبقى في أدراج وزارة الداخلية، وتقيد ضد مجهول نظرًا لكل ما سبق».

وشدد الضابط على أن «كشف الجرائم في ليبيا يحتاج إلى أدلة واضحة كصورة أو فيديو من كاميرا مراقبة أو شهادات واعترافات أو بلاغات من الناس أو القبض على الجناة متلبسين مثلًا، أما ما يحدث بالدول المتقدمة، وفي المسلسلات والأفلام فهو ليس في متناول الدولة الليبية»، مناشدًا الناس بأن «يراعوا ويعذروا رجال الداخلية نظرًا لظروف البلد وحالة الفوضى، ويجب عليهم أن يتعاونوا معهم ويدعموهم».

ويبقى السؤال مفتوحًا حول المدة التي سيستمر فيها الإفلات من العقاب في ليبيا؟ وهو سؤال ستجيب عنه الأيام فقط، ولكن إنهاء الإفلات من العقاب سيحتاج إلى كثير من العمل لتطوير المؤسسات وتأسيسها للوصول إلى دولة القانون التي تسعى إلى تحقيق العدالة للصحفييين والمواطنين بشكل عام.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أنجز هذا التحقيق الاستقضائي ضمن مشروع «آليات الحماية القانونية للصحفيين الليبيين» المنفذ من قبل منظمة «الإعلام عبر التعاون وفي التحول» (MiCT)، والممول من قبل منظمة اليونيسكو.